آخبار عاجل

رواية مايا  بقلم: محمد مصطفي الخياط

05 - 09 - 2021 2:59 577

الفصل السابع عشر
("شَرَخْنا جدار الخجل ومرقنا من تلك الفُرجة الضيقة إلى عوالم رحبة .. كم كان حُبنا جميلاً ")

 


ما بدا اتصالا تليفونيًا روتينيًا بين زوجين تغشى علاقتهما فتور اتضح أمره فيما بعد؛ كان الخط قد انقطع فجأة أثناء اتصال إيلي بمايا، ولم يحاول أى منهما تكرار اتصاله بالآخر كما لو أن المكالمة انتهت بشكل طبيعى وليس لأسباب فنية، وكأن شبكة الهاتف لم تقو على تحمل تلك المكالمة الباردة.

 


على الرغم من انقطاع الاتصال بعد أول دقيقة، إلا أنها بدت مشغولة بسببها، استمعت لها دون تعليق أو حثها على معاودة الاتصال به لعلمى بعدم رغبتها في ذلك، ربما كانت تنتظر منه هو إعادة المحاولة، فلما لم يفعل إزداد عمق جرحها رغم كونها لا تعدو أكثر من مكالمة روتينية، وربما لسبب آخر، ربما. 


وأثبتت الأيام صدق حدسها، لم تكن مكالمة عابرة، بعد مضى نحو أسبوع من ذلك التاريخ، اتصلت بى وأخبرتنى أن زوجها هاتفها من مطار أبو ظبى وأبلغها أنه سيكون في بيروت بعد ساعات؛ حدثتنى وهى مرتبكة أشد ما يكون الارتباك، لا تدرى ماذا تفعل، كأن رجلاً غريبًا اتصل بها وأخبرها أنه قادم ليقيم معها في شقتها، بل وسيشاركها سريرها؛ استشعرتُ خَجْلها وحيرتها حتى أحسست أنه هو الغريب عنها وليس أنا. 


استمعت لها صامتًا محاولاً الحفاظ على هدوئى، لحظات جال فيها خاطرى عدوًا سريعًا بين محطات حياتنا المشتركة، منذ تعارفنا في ذلك اللقاء الأول، فلقائنا الصدفة على الكورنيش، معابثة الحاج سعيد، قفشات شفيق، ذهابى للعمل فرحًا سعيدًا مبتهجًا لاحتمال رؤيتها، دعوتى لها لتناول فنجان قهوة في مكتبى، أول عناق، أول قبلة، وأول كل شيء جميل ذقناه معًا في جنتنا ونارنا، تناول عصير أو مشروب ساخن في مطعم Rock Bay، وعشاءاتنا الموزعة بين مطعمى ليلى ومشاوى الشام.

 

استغرقت كل تلك الخواطر مقدار ما أبلغتنى فيه مايا قرب وصول زوجها، وإن لم يمنعنى ذلك من التعقيب بكلمة أو كلمتين جوابًا لما كانت تقول.

 


صمت برهة غير قليلة، ووجدتنى بعفوية اتحدث بلغة مختلفة معها وكأنني اتحدث مع امرأة أخرى غير تلك التى أعرفها، ثم استأذنتها في إنهاء المكالمة متمنيًا لها وقتًا طيبًا ومتسعًا من الوقت كى تُعد نفسها وابنتها لمقابلة إيلى فالوقت يمر سريعًا؛ فما هى إلا ساعات قليلة ويكون بينهما، وبينما كنت أضع الهاتف جانبًا سمعت نشيجًا مكتومًا مصحوبًا بهمهمة لم استبين فيها كلامًا ولا معنى.

 


أسندت ظهرى إلى المقعد ونظرت للا شيء، ووجدتنى أعود مرة ثانية إلى مشاهد حياتنا معًا، توقفت عند تفتح براعم الحب، عند محاضرة دكتور ستيوارت، وقت شَرَخْنا جدار الخجل ومرقنا من تلك الفُرجة الضيقة إلى عوالم رحبة .. كم كان حُبنا جميلاً، اتصلت صباحاته بمساءاته، مكالمات هاتفية سريعة وأخرى طويلة، صوتها المعجون بفتافيت النعاس ورغوة الأنوثة، نظرتها الشقية الماكرة وهى تلقى بفكرة السفر إلى بيبلوس، موظف الفندق وهو يسألنا عن حقائبنا، فنرد ممسكين بياقات ملابسنا وبصوت واحد ممزوج بالضحك (هَدولا)، مرحنا ونزقنا، وقفتها في الشرفة المطلة على حمام سباحة الفندق بروب الحمام القصير كاشفًا ساقيها العاجيتين، مرحها وعبثها وهى تسبح، لكأننا كنا نغرف من بحار السعادة على عجل خشية أن يدهمنا الفراق.

 


الفراق، أى فراق، وهل فكرت فيه، رن صوتها في فراغ الوحدة (خلي بعدين لبعدين)، هكذا كنا نهرب معًا من السؤال الأصعب، نلقى بنفوسنا المعذبة في آتون الحاضر. أعددت فنجان قهوة وجلست إلى جوار النافذة المطلة على الشارع أنظر إلى لا شيء، أخذت نفسًا عميقًا.

 


فَرَضَت مشاهد لقائها بإيلى نفسها على تفكيرى، جمح خيالى وتجاذبتنى الظنون، مرة أتخيله صاخبًا؛ لقاء زوجة حُرمت زوجها لشهور وآن لهما إطفاء ظمأهما وتعويض ما فاتهما من ليال قضاها كل منهما متمنيًا لقاء الآخر ولو ساعة، ومرة اتخيله باردًا جراء علاقة مشوهة.

 


أكلتنى الوساوس والظنون ولم أجد بُدًا من التسليم في النهاية أنهما زوجان شئت أم أبيت؛ وأنهما لا مفر، سيجمعهما بيت واحد يتواجهان فيه، ولن يستطيع أى منهما أن يخبئ وجهه عن الآخر، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

 


ربما تعاتبا، وربما تشاكيا؛ فيلين هذا وتتشدد تلك، ثم يجمعهما في النهاية غرفة واحدة وفراش واحد فتهدأ نفوسهما ويتقاربان بعد خصام؛ ارتسمت على شفتاي نصف ابتسامة حين تذكرت رواية الأصمعى عن تلك المرأةٌ الجميلة وزوجها الدميم، فلما سُئلت كيف اقترن الجمال بالدمامة أجابت (قُربُ الوساد وطولُ السواد). نعم، جمعتهما وسادة واحدة ولفهما ليل مظلم طويل. تقاربت فيه النفوس فتوارت الملامح بعيدًا. 

 


استقر في نفسى أنهما لا محالة عائدان إلى بعضهما البعض، طال الزمن أو قصر، ستردهما ابنتهما ساندرا، وسيردها أيضًا غيرتها الشديدة عليه؛ فحين رأته بصحبة امرأة أخرى واشتمت رائحة خيانة، جُن جنونها، كان لديها الرغبة لتنتظره حتى وإن اختلفا، تربطهما تلك الشعرة الرفيعة من العشرة والإخلاص، فلما قُطعت لم تُبق على شيء.

 


عادت من رحلتها ثائرة على كل ما حولها وألقت مبادئها في أقرب سلة نفايات؛ زاد من حدة غضبها عدم ثورتها عليه في حينها، كبتت إهانتها في داخلها، وتحاملت على جرحها، اكتفت بتخيله يقف أمامها عاجزًا مُدانًا مطأطئ الرأس وراحت تصب لعناتها عليه في كل وقت وحين، كم من مرة اندفع زملاؤها إلى مكتبها على إثر ارتفاع صوتها مصحوبًا بالشتائم والسباب على غير سبب معروف أو ظاهر فيهرع إليها أقرب زملائها ويحاول تهدئتها، فيفلحون مرة ويفشلون مرات، ومع ذلك كانت تعود من هياجها وكأن شيئًا لم يكن، حتى أنها لم تكن تتذكر ما وقع منها، تنظر إلى من تجمع حولها على إثر صراخها في دهشة، تقف صامتة كأنها جاءت من سفر بعيد، وربما ضمتها إحدى صديقاتها إلى صدرها فلا تلبث واقفة واجمة غير واعية بما يدور.

 


يحدث لها ذلك على غير موعد معروف أو أسباب محددة، وقع بعضًا منها معى، فلا أكاد أقترب منها حتى تنظر نحوى بعدوانية شديدة، أكاد معه أظنها امرأة أخرى غير تلك التى عرفتها وعرفت عنها كل أسرارها وخباياها، أخشى عليها من حالتها تلك، ولا أبالغ إن قلت وكم من مرة خشيت منها على نفسى، تقصر تلك الحالة وتطول بلا سبب مفهوم، وربما تركتنى ومضت إلى حال سبيلها، تستقل سيارتها لا تأبه بلهفتى عليها ولا توسلاتى لتنتظر حتى تهدأ، فلا أملك إلا ان ابتهل إلى الله أن يحفظها، فإذا ما مضت ساعة أو نحوها اتصلت عليها، أكابد فيها من خيالات الظن السيء ما يكفى لتعكير صفوى، فأظل على تلك الحال حتى ترد، صوتًا أو نصًا في رسالة، فاطمئن.
يحدث كل هذا وزوجها غير مدرك بما سببه لها، لم يكلف نفسه ويتصل عليها ليسألها، كيف تنزل أبو ظبى ولا تخبره، وكيف تقيم بفندق كأنها لا تعرفه ولا يعرفها، حتى إذا كانت ترى أنه أخطأ في حقها، فكيف لها أن تتجاهل وجوده بذات البلد حتى ألزمتهما الصدفة أن يلتقيا، هذا إن لم يحملها مسئولية شَطر مما آلت إليه علاقتهما من برود؛ طلب منها صحبته فتعللت بالعمل ودخلها المرتفع، وألح عليها الاكتفاء بدخله، ففيه الكفاية، وأنها لا شك ستجد عملاً بمرتب مجز يتناسب ومستوى تعليمها واجتهادها في عملها، لكنها فضلت البقاء في بيروت مع سفره وحيدًا.

 


استولت علي الهواجس والخواطر وأنا ما زلت على جلستى تلك بعد مكالمتها معى، وكأن في داخلى شخصان يتصارعان، مرة أنصب لها محكمة لا رحمة فيها، ومرة ألتمس لها ألف ألف عذر، ومرة استدعى إيلى في خيالى وأوبخه وألقى عليه باللوم، حتى وجدتنى أطرح هذا السؤال الفارق على نفسى، كيف تحاسب زوجها على مرافقته امرأة أخرى، فيما أحلت هى لنفسها مرافقة رجلٍ آخر، أويعالج مثل هذا النوع من الأخطاء بهذه الطريقة ؟، كيف تغفر لنفسها ولا تغفر له ؟.
أما الحقيقة التى انتهيت إليها وأنا بعد ذاهل في جلستى، فهى وللأسف أننى الطرف المشترك بينهما؛ أنا رمز الخطيئة في حياتها وحياة زوجها.

 


كانت حياتنا معًا زيفًا لا يقبل الشك، سعادة وهمية صورها لنا خيالنا العابث ورغبتنا في التقارب دون حدود؛ كم مرة التقينا فيها خارج حدود العمل؛ حول طاولة عشاء، أو كوبى عصير، نفضفض دونما حرج، نتحدث دون ستار، ينزف سرسوب الاعترافات دون صخب، هادئًا منتظمًا، يصنع حولنا بحيرات حقائق ربما نخفى كثير منها عن الآخرين، ونسترها عن عيون المتطفلين، لكننا أبدًا لم نخفها عن بعضنا البعض.

 


كم مرة من تلك المرات الكثيرة تمنينا، أو على الأقل تمنيت أنا، أن نعود معًا إلى بيت واحد، حيث لا غلالات تخبئ أسرارنا ولا بروتوكولات تحكم علاقاتنا، لذا ما إن سنحت الفرصة لكلينا حتى رحنا نعوض ما فاتنا من فرص وما تمنيناه في الخيال؛ ضحكنا، فرحنا، شربنا، سافرنا، ألقينا بأنفسنا في خضم المتعة ونسينا، ربما عن عمد، أننا في حالة استثنائية لا محالة زائلة مهما طال بها الزمن، وها هو زوجها يعود ويضعنا في البقعة الرمادية، المابين؛ منطقة الحيرة والتردد وإعادة النظر في كافة التفاصيل ورؤية الأبعاد على حقيقتها، منطقة اكتشاف الخطأ الجوهرى، والقاتل، في تصميم بنيان سهرنا عليه ليالٍ طويلة، يا لطول البقعة التى تقتلنى نفسيًا كلما مررت بها، ويا لكثرة عبورى البطئ لها.

 


كشفت لنا عودة زوجها أن ما اعتبرناه طبيعيًا بالتعود في علاقتنا ليس طبيعيًا بالمرة، أسقطت عودة إيلى ورقة توت الاعتياد التى تَسَتَرنا خلفها لشهور طويلة دون أن نفكر لماذا نفعل ذلك. من جهتها، دفعتها الرغبة في نسيان آلام عدم التوافق معه، كأنها تنتقم منه بعد ما اشتمت خيانته لها، أفرغت كل طاقتها السلبية معى، راحت تعوض كل ما فاتها من مشاعر وما تمنته من أحلام.

 


اعتدنا أن نكون معًا، أنسانا الاعتياد ما حولنا من محددات اجتماعية، ما أبشع التشبث بعادة تُهددنا بالعودة إلى المربع صفر في أية لحظة؛ نُعيد حساباتنا من جديد، حولنا الاعتياد إلى روبوتات تكرر ما ألفته دون تفكير، حتى الآخرين؛ صرت أخشى عيونهم وتؤلمنى وخزات أسئلتهم العفوية، وكأن خلف كل تعليق اتهام؛ يا لعذاب من انكشف سِترُه.
نعم، قلب قدومه الطاولة بما عليها، أعاد كل منا التفكير في علاقته بالآخر، كيف بدأت عفوية كلقاء عابر لا يوحى باستمرارية، وإن حدثت فمثلها مثل كثير من روابط زملاء العمل، سطحية مثل قشرة رقيقة لا تسمن ولا تغنى من جوع، لكن سرعان ما ألجأتنا الأحداث إلى شيء من حديث إنسانى استشعرنا معه تقارب حياتنا الشخصية ووقوفنا جنبًا إلى جنب في فراغات العواطف والمشاعر من دون رفيق، بتنا لقمة سائغة لليالى السهد والأرق والفراش الخاوى من رفيق تتأمله بعيون محب ومشاعر عاشق، تنتظر أن يباغتك هامسًا في أذنك بكلمة حب، وتستيقظ في الصباح على وقع قبلاتها تغمر وجهك وقشعريرة ملمس خصلات شعرها المبتل، وتفتح عينيك على صباح تُخيم فيه الشمس على طاولة فطور العاشقين المتيمين المغموس خبزهما بقطرات الحب المعطر بكلمات العشق، ومتى افترقا انتظر كل منهما، في شغف، عودة رفيقه، عودة نصفه الآخر حتى يتحرر من إحساس الفقد بالغياب، تتشابك أيديهما وتتعانق أصابعهما فتطمئن القلوب الواجفة الراجفة.
قربنا الخواء العاطفى؛ جذبنا إلى بعضنا البعض عشنا عالم غير العالم، ودنيا غير الدنيا، أدركت نوعًا جديدًا من الزمن؛ الثانية فيه دهر، واليوم فيه عمر طويل مديد، خالفت الأرض قوانينها وغيرت الشمس موقعها وألقى الزمن عقاربه في المجهول، تغيرت حياتنا بالكلية، يبحث كل منا عن الآخر إن غاب ولا يهدأ حتى يجده فيطمئن ويسكن. 
كم شهدت حياتنا من نقلات مؤثرة، في كل يوم نقلة مختلفة في اتجاه القرب، إلى أن عاد إيلي وآن لكل شيء أن يعود إلى مكانه الطبيعى؛ البوصلة التائهة إلى اتجاهها الصحيح، والنجوم إلى دورانها، والطيور إلى أوكارها، والتائهون إلى عناوينهم القديمة.
تمشيت في الشقة متثاقلاً، روحها في كل مكان، يا إلهى، أيخلو منها هذا البيت الذى صارت جزءًا منه. يرن الهاتف ثم تخبرنى أنها تتسوق بالقرب منى، وأنها ربما تمر علىّْ إذا ما انتهت من أغراضها سريعًا، تمضى ساعة أو بعض ساعة، ويرن جرس الشقة ثم اسمع صوت حركة المفتاح في الباب وتلك التكة التى أتلهف عليها، وإذا هى تهل بابتسامتها، تصب قبلاتها بلا حساب، ثم تدلف إلى البيت كأنه بيتها، تلومنى على بعثرتى لملابسى وتدور تجمعها من على الأرائك، تضع المتسخ منها في الغسالة، تضيف المسحوق، وتدير أكرتها، وتغلق باب الحمام اتقاءً لضجيجها، ترص الأطباق والأكواب في الغسالة الكهربائية، تلملم الجرائد المبعثرة والأوراق المتناثرة ولا تكف عن الهمهمة واللوم من فوضويتى، تطوى بعض الملابس وترصها في الدولاب، أو تضع النظيفة منها بأحد الأكياس وتستدعى الكواء، وكعادتها في كل مرة، تشدد عليه أن يعيدها بعد ساعة مراعيًا ضبط ياقات القمصان، فهى لم تُكوْ بالجودة المطلوبة في المرة السابقة. 
اعتدتها في بيتى، وما عدت استغرب وجودها، متى دَخَلَت ينبعث في أرجاء الشقة البهجة والمرح، لا تكف عن وضع لمساتها، تعدل وضع الأثاث، تعاين الثلاجة، تتصل بالبقالة وتملى عليها الطلبات، مجمدات، ألبان، مشروبات وعصائر، وأحيانًا سجائرها. فإذا ما استقر كل شئ في موضعه الذى تريده له، أعدت القهوة وأتت بها إلى غرفة المعيشة، تجلس على الأريكة الكبيرة إلى جوارى، تمدد ساقيها على الطاولة الصغيرة أمامها، تسحب سيجارة وتخرج ولاعتها الذهبية من حقيبتها، ثم تمضى تدخن بينما تتناول قهوتها، ترجع رأسها للخلف كأنما تسترجع شريط يومها أو حياتها وتقذف بهمومها خلف ظهرها.
هنا جلست على حافة السرير في مواجهة المرآة؟ مرتدية روب حمام بألوان ربيعية، تمشط شعرها بعد حمام دافئ، أغرتنى جلستها بمشاغبتها؛ فألقيت المنشفة على رأسها فانسدلت على وجهها، أعرف أنها تبغض تلك المداعبة إذ تحجب عنها الضوء، تكره الظلام منذ كانت تختبأ مع والديها من غوغاء الحرب الأهلية، كالفراش؛ تبحث دائمًا عن النور، حتى عندما تهجع إلى سريرها لتنام، توقد مصباحًا صغيرًا في زاوية الغرفة. ألقيت المنشفة متوقعًا ثورتها كعادتها كلما بادرتها بهذا الفعل، ثورة مخلوطة بالحب والغنج. وعلى عكس ما توقعت؛ وضعت يديها على المنشفة وراحت في نشيج محموم، اندفعت نحوها معتذرًا، هزت رأسها يمينًا ويسارًا، وعندما هدأت أخبرتنى أنها تبكى خوفًا، انكمشت في صدرى، كانت تخشى ألا يدوم وصالنا، ماذا لو، وماذا لو، وحولنا ألف عنقود لو، تكفى أصغر حبة فيه لنسف علاقتنا من جذورها، وهاهي الريح تطوح بُنياننا في الفضاء.
صرت أعرف حالاتها كلها، توترها وهدوئها، غضبها ورضاها، حزنها وسرورها؛ تنكمش إلى جوارى، تدفن رأسها في صدرى، فأعرف أنها قلقة، وأن هناك ما يشغلها، اربت على رأسها، أقبل شعرها، أسألها (ما بك ؟). تختلف إجاباتها، بداية من (ولا إشى) إلى (ولا بَدرى إيش شاغلنى). تلتصق بى فيتسرب إلى عبيرها، رائحة شعرها وملمسه الناعم، انزلاقه على وجهها، حركة يدها اللا إرادية ترده إلى نظامه، فيأبى، فتسحبه بيمناها وتحبسه خلف أذنها. وأحيانًا تقرفص كجنين وتلتصق بى، فأعرف أنها في ذروة توترها وقلقها، كنت أترجمها على أنها تصرفات عَرَضية سرعان ما تختفى، لم يدر ببالى أنها كانت، في تلك اللحظات، حبة برتقال يعصرها شربتلى الآلام، وأنها تكابد كى تخفى ما لا تُريد البوح به، لاكتشف فيما بعد جهلى بذلك الطابق المسحور من حياتها.
نادراً ما تبوح بما يشغلها،
-    بيكَفى تساعدنى توترى يِفل
تعقب على سؤالى المعتاد عما يشغلها، ثم تردف
-    معك افتح صمام بخار ضغوط الحياة، اسمع صوت صفيره عاليًا، كلما ارتفع صوته كلما تعافيت أسرع، حين أكون معك أو على الأقل إلى جوارك أشعر بالأمان، وفى الليل ينتابنى الخوف أن استيقظ ولا أجدك، ينهشنى التفكير، يتسلى بى، يقرقش عظامى، يلقى بنفاياتها على قارعة الليل الكئيب، أمد يدى إلى هاتفى، أرسل إليك رسالة، اتمنى ان تراها في حينها وترد على، تهاتفنى، تنتشلنى من بئر ظنونى وأحزانى، وعندما يطول انتظارى، أعرف أنك ما زلت نائمًا، أترقب صحوك، فإذا ما أجبت رسائلى، رفعت رأسى من تحت مياه أحزانى، أتنفس بعمق، اتحدى اليأس، انهض من فراشى، أغسل أسناني فأزيل من فمى مرارة القلق والوحدة، افتح الدش فيندفع الماء قويًا دافئًا، يلسع جلدى، فأوقن أننى ما زلت حية فاستعد للقائك في العمل، وهكذا دواليك، ليلي أسى وعذاب، وصبحى أمل وحياة.
ثم تستل سيجارة من علبتها وتبقيها بين شفتيها ولا تتعجل إشعالها، في بعض الأحيان تسقط قصاصة ورقية من علبة سجائرها فتنحنى مضطربة وتلتقطها وتعيدها للعلبة وأحيانًا تُضرم فيها النار بولاعتها وتُبقيها بين أصابعها حتى تأتى عليها النار، فإذا ما اقتربت من أصابعها أفلتتها في المنفضة. آه من هذه الأسرار ومن تلك القصاصة، ربما لو كنت قرأتها مرة واحدة ما عشنا هذه التجربة، وما كنت في مثل هذا الموقف، وما كانت هذه الرواية. 
كم ألف مرة اطفأت سيجارتها، واسندت رأسها على صدرى، وكسرت خزان صمتها ببلطة حكيها مقتربة من ينبوع البوح الذاتى منه إلى حوار بين اثنين، ينساب سرسوب اعترافاتها من شِقْ خزان الأحزان مدفوعًا بضغوط الحياة، تستملح الفضفضة، فتترك حديثها ينساب بلا قيود ولا اتجاهات، يسيل على قارعة صمتى مُنبئًا بصراعها الداخلى وعراك أمواج لا تهدأ وهدير أفكار لاتستريح. فضفضة تقفز فيها بين الأمس والطفولة من دون ترتيب، موقف من هنا وآخر من هناك، تتشابك الأحداث، مراهقتها، أمها وأبيها والصراع بينهما على أمور الدين، خطيبها السابق وانفصالها عنه وتعرفها لأول مرة على زوجها الحالى، ثم ملاحظة عابرة عن مشاعره تجاهها حتى سفره للخارج.
ها أنا ذا أجلس وحيدًا استرق النظر نحو باب الشقة علها تهل علىّْ بوجهها الرخامى الملمس والباب جامد بارد بلا حياة ودون أدنى تعاطف مع قلقى المتزايد، ينقلب النظر إلى خاسئًا وهو حسير. أطالع مواقع التواصل الاجتماعى. تجذبنى خيوط الحيرة في كل الاتجاهات، مُعَلَق، لا تلمس قدماى قاع البحر ولا ترتفع رأسى عن سطحه المضطرب. يهدهدنى الموج يمنة ويسره. أكاد أختنق. كلما رفعت رأسى بحثا عن دفقة هواء لأتنفس، باغتنى فضاء ملبد بالدخان والسخام. لا أعرف، أأظل تحت الماء فأموت غرقًا ؟، أم أرفع رأسى لأُقضى مختنقًا ؟؛ حيرة، حتى عند الموت حبًا.
إلى لقاء في فصل جديد
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved